نبأ العرب

(هاسبارا).. ضربني وبكى، سبقني واشتكى!! - نبأ العرب

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
(هاسبارا).. ضربني وبكى، سبقني واشتكى!! - نبأ العرب, اليوم الاثنين 11 نوفمبر 2024 06:57 مساءً

الإثنين 11/نوفمبر/2024 - 06:49 م 11/11/2024 6:49:10 PM

فيما لا يزال الغموض يلف العنف الذي وقع في أمستردام بهولندا، الأسبوع الماضي، بعد مباراة كرة القدم التي جمعت بين فريقي أياكس أمستردام ومكابي تل أبيب، وسط تنديدات هولندية وإسرائيلية وحتى أممية، بالاعتداء الذي طال مشجعين إسرائيليين لفريق كرة القدم، أكد شهود عيان من أمستردام، أن عددًا من المشجعين الإسرائيليين بدأوا الاستفزازات، عبر تمزيق أعلام فلسطينية، كانت مرفوعة على واجهات بعض المنازل التي يقطنها مغاربة مقيمون في المدينة، (ولم تتدخل الشرطة الهولندية لمواجهة أو وقف مشجعي النادي الإسرائيلي عن تمزيق الأعلام الفلسطينية)، لتتطور الأمور لاحقًا إلى اعتداءات ومواجهات.. كما أكد بعضهم، أن الإسرائيليين ينتهجون سياسة (ضربني وبكى، سبقني واشتكى)، في إشارة إلى أنهم أشعلوا الغضب بتصرفاتهم، ثم راحوا يتباكون ويطالبون بالحماية، ويستنكرون.. وقد أظهرت مقاطع فيديو، تداولها العديد من المغردين على منصة (إكس) توثق ما وصفوه بالاستفزازات الإسرائيلية، ومنها عدد ممن يُرجح أنهم مشجعون للفريق الإسرائيلي، يرددون شعارات بالعبرية (اقضوا على العرب! سننتصر)، والعشرات من الأشخاص المُقنعين، الذين يرتدون ملابس سوداء بالكامل، وهم يرددون هتافات عدائية من بينها (اذهبي إلى الجحيم يا فلسطين)، وفق ما أفادت وكالة فرانس برس.. وأوضحت (بي بي سي)، أن مشجعي مكابي تل أبيب، سبق لهم أن شاركوا في حوادث عنصرية في الكيان الصهيوني، كما هاجموا في السابق المتظاهرين المعارضين لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فيما أكدت شبكة (بي بي سي) البريطانية، أن اللقطات أظهرت أن مشجعي مكابي كانوا يسخرون ويطلقون صافرات الاستهجان في الاستاد الرياضي، خلال دقيقة صمت على القتلى في الفيضانات التي ضربت إقليم فالنسيا الإسباني، ردًا منهم على اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية.
وأيًا كان ما حدث، وردود الفعل الرسمية عليه، في أوروبا وأمريكا، التي وصلت حد وصفه بـ (معاداة السامية)، لدى بعض المسئولين الهولنديين، فإن ذلك يضع السؤال المهم أمام ناظرينا: هل تغير الرأي العام العالمي تجاه فلسطين؟.
●●●
نعتقد أن معركة (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر 2023، وماتلاها من تدمير إسرائيل لقطاع غزة، وترويع السكان وقتل المدنيين الأبرياء، الذي وصل إلى الإبادة الجماعية، جسَّدت لحظة فارقة في التاريخ المعاصر للقضية الفلسطينية؛ حيث أدت إلى تغيير جوهري في الرأي العام العالمي، كما يقول الكاتب لؤي صوالحة.. إذ تأتي هذه المعركة، في وقت يعاني فيه الشعب الفلسطيني من انتهاكات متكررة للحقوق الإنسانية، مما دفع المجتمعات الدولية إلى إعادة تقييم موقفها من الصراع.. إن تصعيد الأعمال العسكرية في قطاع غزة، الذي أسفر عن عشرات آلاف الشهداء من المدنيين، غير المُصابين والمفقودين، كان له تأثير عميق على مدى وعي العالم بالمأساة الفلسطينيّة.. فقد أظهرت الصور والمشاهد المروعة من أرض المعركة، معاناة لا يمكن تجاهلها؛ فالأطفال والنساء الذين أُجبروا على مواجهة القصف والتهجير، أصبحوا رموزًا للظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.. هذه اللحظات المؤلمة، التي تُنقل عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، تجذب الانتباه وتُثير مشاعر التعاطف في قلوب الناس حول العالم.. ووفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية، قُتل نحو 43 ألف مدني فلسطيني خلال الحملة العسكرية، حتى الآن، ثلثيهم من النساء والأطفال الأبرياء، مما يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع.
إن الوضع الإنساني في غزة يقترب من الكارثة، حيث يعاني السكان من نقص حاد في المواد الغذائية والمياه والرعاية الصحية.. وتؤكد تقارير المنظمات الإنسانية، مثل الأمم المتحدة، أن حوالي 1.6 مليون فلسطيني في غزة، بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، مما ينذر بكارثة إنسانية وشيكة.. في خضم هذا الوضع الأليم الذي يستدعي تدخلًا عاجلا من المجتمع الدولي، حيث يجب على الحكومات اتخاذ مواقف واضحة تساند حقوق الشعب الفلسطيني، وتساعد في رفع المعاناة عن كاهله.. وتقوم منظمات حقوق الإنسان بدور حيوي في توثيق الانتهاكات المستمرة التي تُمارس بحق الفلسطينيين؛ إذ تُعد هذه المنظمات مصدرًا موثوقًا للمعلومات، حول عمليات القصف والتهجير والتعذيب في السجون.. ومع تطور وسائل الإعلام الاجتماعية، تزداد سرعة انتشار هذه المعلومات، مما يُعزز النقاش حول حقوق الإنسان ويُبرز ضرورة إنهاء الاحتلال.. وقدمت منظمة هيومن رايتس ووتش ـ على سبيل المثال ـ تقاريرًا دقيقة حول الانتهاكات المستمرة، مما يعزز وجود القضية الفلسطينية في النقاشات السياسية العالمية.
التحولات في الرأي العام شملت أيضًا تزايد التفاعلات الشعبية في مختلف الدول.. لقد شهدنا مظاهرات حاشدة في المدن العربية والغربية، تدعو إلى وقف العدوان الإسرائيلي ودعم حقوق الفلسطينيين، وهو ما يعكس تحولًا في وعي الجمهور الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية، حيث بدأت المجتمعات تدرك أن القضية الفلسطينية هي قضية إنسانية بامتياز، تتجاوز حدود المنطقة الجغرافية، وينبغي أن يتجاوز المجتمع الدولي مجرد الإدانات الكلامية، إلى يتبنى سياسات فعالة تدعم الحقوق الفلسطينية، مثل فرض عقوبات على الاحتلال، وتعزيز الضغط على الحكومات لتغيير سياساتها، بعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، أداة قوية لنقل التجارب الإنسانية للفلسطينيين، حيث تمكنهم من توثيق حياتهم اليومية تحت الاحتلال.. هذه المنصات تعكس الحقائق بشكل مباشر، مما يزيد من صعوبة تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني.. الصور والقصص التي تُنشر تساهم في خلق حالة من التعاطف العالمي، وتُسلط الضوء على واقع الاحتلال المُظلم. وقد أصبحت الحملات الرقمية أيضًا، مثل For Gaza Pray، وسيلة لجمع الدعم وتوعية الناس بالوضع الإنساني في غزة، حيث لقيت صدىً واسعًا على منصات، مثل: إكس وإنستجرام.
ومع تزايد الضغوط الدولية، برزت حركات تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها، نما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية التضامن مع الشعب الفلسطيني.. هذه الحركات، التي تشمل شخصيات عامة ومثقفين ونشطاء، تُظهر قدرة المجتمع المدني على التأثير في السياسات الحكومية.. في الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ أدت الحركات الطلابية إلى دعوات لمقاطعة الشركات التي تستثمر في إسرائيل، مما أثار نقاشات واسعة حول المساءلة وحقوق الإنسان.. ومع ذلك، ينبغي أن يتجاوز المجتمع الدولي مجرد الإدانات الكلامية. كما قلنا، وأن يتبنى سياسات فعالة تدعم الحقوق الفلسطينية، مثل فرض عقوبات على الاحتلال، وتعزيز الضغط على الحكومات لتغيير سياساتها.. يمكن أن تؤدي الحكومات دورًا مهمًا في دعم تحقيق العدالة، من خلال دعم المبادرات التي تهدف إلى إعادة بناء غزة، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة. إضافةً إلى ذلك، يتعين على المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، أن تتخذ خطوات فعالة لوضع حد للاحتلال، وتقديم حلول عادلة للصراع.. وتدعو الحاجة إلى تعزيز التعليم والتثقيف حول القضية الفلسطينية، حيث يجب على المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام تقديم معلومات دقيقة وموضوعية.. لأن نشر الوعي حول تاريخ الصراع، ومعاناة الفلسطينيين، يسهم في تعزيز التضامن الدولي، ويُشجع على تبني سياسات أكثر إنصافًا.. كذلك، من الضروري دعم البرامج التعليمية التي تُروِّج للسلام والعدالة في المنطقة، فإن ذلك يساعد على بناء جيل جديد من القيادات المتعاطفة مع حقوق الإنسان.
●●●
من الطبيعي، أن لا تقف إسرائيل، حيال ذلك، مكتوفة الأيدي، وهي التي أشاعت سرديتها التاريخية عن نفسها، باعتبارها شعب مظلوم، يريد العيش في سلام، وسط وحوش آدميه، اسمها الفلسطينيون، بعدما عاني اليهود من قبل في محارق الهولوكست، أكذوبتهم التاريخية التي وجدت صدى واسعًا حول العالم، وصارت العبارة الأشهر في التاريخ، على لسان كل مسئول في الغرب، (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)!!.. ذهب قادة الكيان الصهيوني إلى تأسيس ما أسموه (هاسبارا)، آلة الدعاية التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية في أرجاء العالم، لتبييض مجازرها وانتهاكها حقوق الإنسان والقانون الدولي، خلال الحروب التي تخوضها ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.. وتستخدم إسرائيل (هاسبارا)، باعتبارها تقنية دبلوماسية عامة، تُسخّر فيها المعلومات المضلّلة وتربطها بأهدافها الإستراتيجية لتبرير أفعالها. وتُعد إحدى جبهات الحروب الإسرائيلية.
وتُعد الدعاية الإسرائيلية من أنجح الدعايات الإعلامية التي تقوم بأكبر عملية غسل أدمغة على المستوى العالمي، لما يملكه الإسرائيليون في العالم من إمكانات اقتصادية ومالية ضخمة، إضافة لمعرفتهم كيفية مخاطبة العقل الغربي، إذ سهّلت عليهم جذورهم الغربية أن يحققوا أكبر عملية إقناع وتزوير لمصلحة (قضيتهم) القائمة على تهويد فلسطين وتغيير معالمها وتفريغها من سكانها الأصليين.. وكان من أهم ما أنتجته هذه الدعاية لتحقيق أهدافها هو (هاسبارا)، وهي كلمة في اللغة العبرية تعني الشرح أو التفسير أو التوضيح.. وتُعَد من الإستراتيجيات التي يعتمدها الاحتلال لبناء صورته في الخارج، وهي صورة تواجه انتقادات منذ الإعلان عن قيام إسرائيل عام 1948، وأيضًا من أجل تفسير سياساتها، وتقديم تقارير عن الأحداث ونشر معلومات إيجابية عنها لمواجهة أي نقد تتعرّض له.. وهي أشبه بحملة علاقات عامة دولية لمصلحة إسرائيل، يقوم بها خبراء في التواصل وأساتذة جامعات وطلاب أكاديميون، وضباط استخبارات وإعلاميون في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والإليكترونية.
وغالبا ما تُستخدَم كلمة (هاسبارا) لوصف الدعوة المؤيدة لإسرائيل، ويُطلق عليها أيضًا تقنية الدبلوماسية العامة، التي تربط حرب المعلومات بالأهداف الإستراتيجية، لتصدير صورة إيجابية لإسرائيل على المسرح العالمي، أو توضيح وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية وتعزيزها في مواجهة الصحافة المُنتقدة لها، ولشرح سياساتها وتبرير أفعالها والدعاية لإسرائيل عمومًا.. وقد باتت كلمة (هاسبارا) تعني مجازًا، مرادفُا لكلمة (بروباجاندا) في اللغة اللاتينية، التي تعني الدعاية، عبر نشر معلومات وإشاعات وأنصاف حقائق أو أكاذيب، للتأثير في الرأي العام، وغالبًا ما تُنقل من خلال وسائل الإعلام.. وهي جهد منهجي إلى حد ما، للتلاعب بمعتقدات الآخرين أو مواقفهم أو أفعالهم، عن طريق الرموز (الكلمات والإيماءات واللافتات والآثار والموسيقى والملابس والشارات وتسريحات الشعر والتصميمات على العملات المعدنية والطوابع البريدية وما إلى ذلك).
يعود تاريخ (هاسبارا) إلى ما قبل ولادة إسرائيل، إذ كان ناحوم سوكولوف، أحد زعماء الحركة الصهيونية، أول من أدخل هذا المصطلح رسميًا على المفردات الإسرائيلية مطلع القرن العشرين، من خلال كتاباته ومؤلفاته عن الحركة الصهيونية.. أعطى سوكولوف كلمة (هاسبارا) العبرية، مفهومًا سياسيًا إعلاميًا، وقد ابتكر هذه الكلمة، لأن البديل الشعبي غير المقبول هو (الدعاية)، فأراد أن يعطيها تعريفًا أكثر دقة وجدة.. كان يؤمن بأنها إستراتيجية تواصلية (تسعى إلى شرح الأفعال، سواء كانت مُبررة أم غير مُبررة)، معتبرًا أن المصطلح الجديد يمثل نهجُا دفاعيُا ومقنعًا بطبيعته، ومتجذرًا بعمق في الثقافة اليهودية، ويهدف إلى الحصول على الدعم الدولي للسياسة الإسرائيلية والحفاظ عليه.. وكان يرى أن أي مستوطنة تُنشأ على أرض فلسطين، ستُعاني من تصوّر سيئ وصورة سلبية.. كما اعتبر سوكولوف، أن (هاسبارا) تمثّل شكلًا طبيعيًا للحركة الصهيونية، ودعا إلى نشرها بين مستشاري أوروبا، ومن خلال الخطب العامة، باعتبارها وسيلة للقادة من أجل (توضيح تطلّعات الشعب اليهودي للسلطات)، في وقت كانت كراهية اليهود جزءًا من الثقافة الأوروبية في تلك الحقبة.
●●●
تدرك إسرائيل أن الروايات التي ترويها لنفسها وللعالم مُلفقة، وأنها دولة غير قانونية وغير عادلة.. لذلك، خلال الحروب الكثيرة التي شنّتها، سواء على الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة أو على بعض الدول العربية المحيطة بها، اعتمدت (الهاسبارا) سلاحًا إضافيًا من أجل السيطرة على الرأي العام، والتلاعب بالمعلومات والترويج لسرديات مخادعة، عن كلّ وجه من أوجه الإبادة التي ترتكبها.. غير أن التطبيق الرسمي للـ (هاسبارا) دخل حيّز التنفيذ المؤسساتي على نطاق واسع، عقب اجتياح إسرائيل لبنان في صيف 1982، وارتكابها مذبحة ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، جنوبي بيروت في سبتمبر من ذلك العام، قُتل فيها نحو ألأف وثلاثمائة شخص.. وتسبب ذلك الحدث في ظهور رواية مختلفة للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، قدّمت إسرائيل على أنها المعتدية.
هذه السمعة السيئة لإسرائيل عالميًا، التي تناقلتها وسائل الإعلام الأمريكية عقب مجزرة صبرا وشاتيلا، دفعت المؤتمر اليهودي الأمريكي إلى رعاية مؤتمر عُقد في القدس عام 1983، لوضع إستراتيجية علاقات عامة رسمية (هاسبارا)، لتكون الآلة الدعائية لغسل اسم إسرائيل، وجعل انتقاد تصرفاتها أمرًا صعبًا للغاية.. وضم المؤتمر متخصصين في العلاقات العامة والإعلانات وصحفيين وخبراء إعلاميين وقادة جماعات يهودية كبرى.. وطُرحت خلال المؤتمر أفكار عدة، مثل (مواجهة الحقيقة، عبر لعبة تغيير عقول الناس، وجعلهم يفكرون بطريقة مختلفة، من خلال استخدام البروباجاندا).. وتلا ذلك، تغيير في الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع الأزمة الفلسطينية، انطلاقًا من مبدأ، أنه (مهما فعل الفلسطينيون، فسيعمم على أنه عُنف غير مُبرَّر ضد اليهود، أساسه نوع بدائي من معاداة السامية).. وعليه، تحوّل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، من صراع يتمحور حول الأرض إلى كراهية اليهود، ومن ثم لم يعد الأمر في الدعاية الإسرائيلية يتعلق بالمستوطنات، بل أصبح بشكل مستمر، عن كون الفلسطينيين يكرهون الإسرائيليين فقط، لأنهم يهود!.
وتحت مظلة (هاسبارا)، أُنشِئت هياكل دائمة في الولايات المتحدة وإسرائيل للتأثير على كيفية تفكير العالم، وخصوصًا الأمريكيين، بشأن إسرائيل والشرق الأوسط في المستقبل.. وطُورت مجموعة نقاط، بهدف التركيز عليها في مخاطبة الرأي العام، من بينها: أهمية إسرائيل الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وقيمها الثقافية المشتركة مع الغرب، ورغبتها في السلام.. ويضم جهاز (هاسبارا) وكالات حكومية ووزارات ومراكز بحوث ومنظّمات غير حكوميّة، إضافة لقسم في مكتب رئاسة الوزراء، وقسم الإعلام والدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية ووزارة الدبلوماسية العامة وشئون المغتربين (سابقًا)، والوكالة اليهودية لأجل إسرائيل (وهي جزء من المنظّمة الصهيونية العالمية)، ووزارة السياحة وقسم الناطق باسم الجيش الإسرائيليّ، ولكلّ منها أدوار تفصيلية مُحددة.. وتتولى حكومة الاحتلال تمويل مشروع (هاسبارا) بدعم هائل من أفراد وشركات عالمية، حتى باتت المؤسسات الإخبارية والصحفيون والأكاديميون والسياسيون والفنانون، يتوقعون الضغط إذا خرجوا عن مستوى الخطاب المقبول الذي أنشأته إسرائيل ومؤيدوها.. وتُرفض الروايات البديلة التي تكشف انتهاكات إسرائيل، باعتبارها معادية للسامية.
وفي كل مرة كانت ترتكب فيها إسرائيل جرائم حرب في حق الفلسطينيين، لعبت (هاسبارا) دورًا مهمًا في خداع الرأي العام الدولي للإفلات من العقاب.. إذ تدرك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، إلا إذا كانت هناك آلة دعاية قوية بما فيه الكفاية، يمكنها مواجهة الإدانة العامة الحتمية والتضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني.. وتطبيقًا لإستراتيجية الدبلوماسية العامة للسيطرة على السرد والتلاعب بالمعلومات، تلجأ (هاسبارا) إلى إنجاز مهماتها، عبر استهداف الدبلوماسيين والسياسيين والجمهور، من خلال وسائل الإعلام، وأيضًا خلال الكثير من المعاهد والوكالات الحكومية، وكذلك مراكز البحوث والجامعات والمنظمات غير الحكومية وشركات الضغط.
●●●
أطلقت الوكالة اليهودية (دليل هاسبارا) على الإنترنت، للطلاب في جميع أنحاء العالم، لاستخدامه للدفاع عن إسرائيل وسياساتها.. وهو كتيّب تدريبي، يشرح تفصيليًا إستراتيجيات الدفاع وأسس المجادلة والدخول في النقاشات، محددًا مجموعة من الأهداف أهمها: تبرير الهمجية والوحشيّة تحت عنوان (محاربة التطرّف والإرهاب).. اختلاق الوقائع وقلب سياقها، في إطار تزييف الأحداث وتشويه الحقيقة والتلاعب بالوعي، وصرف الأنظار عن المجرم الحقيقي.. تحوير أي نشاط معارض لإسرائيل وتحويله إلى نشاط (معاد للساميّة)، وهي تهمة يُعاقب عليها القانون في بلدان عدّة.. تشويه سمعة أي جهة تنتقد إسرائيل ولو بالشعارات والخطابات.. ترويج صفة (اليهودي الكاره لنفسه) في مقابل اليهود المعارضين لإسرائيل وأفعالها.. الترويج لفكرة أن إسرائيل ضحيّة بريئة تتعرّض لتهديد إرهابي، ومن ثم فإن أي انتقاد موجّه إليها سيتحوّل إلى تبرير للإرهاب.. دفع شركات الإنترنت الكبرى إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة، والتواطؤ معها لقمع الرأي الآخر، وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات (معادية للساميّة)، مقد شاهنا ذلك خلال الهجوم الوحشي على إسرائيل ولبنان الآن.. تنظيم دورات تدريبية في مجال المعلوماتية والإنترنت، وعلى كيفية التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، لضمان ظهور المنشورات والتعليقات التي تتناسب مع أهدافهم.. إطلاق التطبيقات الهاتفية، وهي من أهمّ أدوات وأسلحة حربهم الإعلامية، لنشر مهمّات للمتطوّعين الراغبين في تنفيذها.. التبليغ عن الصفحات الإليكترونية المعادية لإسرائيل والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية حول العالم، وعلى رأسها صفحات (حملة مقاطعة إسرائيل).. إطلاق (زمالات هاسبارا)، وهو برنامج تدريب وتجنيد متطوّعين إسرائيليين ومن غير الإسرائيليين، لا سيما من طلّاب الجامعات الذين تُقدّم لهم منح دراسية أكاديمية، في أرقى الجامعات الأمريكية والكندية والأوروبية.
وتعتمد إسرائيل في بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة، على (الطابور الخامس)، من المتعاطفين الناشطين لتضخيم رسائلها، ودحض وتشويه التصريحات التي تتعارض مع رواياتها، والطعن في الموقف الأخلاقي للذين ينتقدون جرائمها.. ومن شأن أساليب التضليل، تحريف الحقائق وتزويرها، وجعل المجرم والضحيّة متساويين، إضافة للترويج لإسرائيل باعتبارها (دولة ديمقراطية) تتعرّض لحملات الكراهية من جيرانها، دون سبب.. وبواسطة التضليل وتشويه الحقائق وإخفاء الأدلة والشواهد، تتصدى (هاسبارا) لأي محاولة لإدانة إسرائيل وممارساتها، وتسعى إلى اعتراض موجات التعاطف مع القضية الفلسطينيّة في أرجاء العالم، من خلال توجّهها ـ أي هاسبارا ـ إلى كلّ الشعوب والمجتمعات وخاطبتهم، كلٌّ بحسب ثقافاته وعاداته وتوجّهاته الفكرية والعقائدية، من أجل اللّعب على التناقضات والعواطف والمشاعر بما يخدم مصالحهم، تارةً من خلال سرديّة المظلومية اليهودية عبر التاريخ، وطورًا من خلال سردية الوجود بحكم القوّة والأمر الواقع، وإظهارها بوجه حضاري والعمل على (أنسنة) الاحتلال.
ومع دخول العالم العصر الرقمي مطلع الألفية الثالثة، اتخذت (هاسبارا) منحى متطوّرا وأكثر دقة في استهداف الجمهور، مُتسلّحة بأحدث ما توصّل إليه العلم من تقنيات، انطلاقًا من إدراك إسرائيل، أنه في الحروب الحديثة، فإن السيطرة على بيئة المعلومات هو بأهمية السيطرة على ساحة المعركة.. ولأن (هاسبارا) متعددة الأوجه ومتكيّفة بشكل جيد مع العصر الرقمي، أوجدت إسرائيل شراكة بين القطاعين العام والخاص، تقود فيها الدولة ويتبعها المتطوّعون الملتزمون في تنفيذ إستراتيجية المعلومات، من خلال الاستخدام الكثيف لقنوات التواصل الأكثر انتشارًا وتأثيًرا، مثل (فيسبوك) و(إكس) و(إنستجرام) و(يوتيوب)، باعتبارها تسهم بقوة في تشكيل الرأي العام.. وقد دفعت إسرائيل شركات الإنترنت الكبرى، إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة، والتواطؤ معها لقمع الرأي الآخر، وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات (معادية للساميّة)، إذ تُحذف آلاف المنشورات والحسابات المتعاطفة مع فلسطين على تلك المنصّات وغيرها.
وفي هذا الإطار، نظمت إسرائيل وحدات حكومية وعسكرية مدنية لاستغلال الأمر، بما في ذلك إنشاء مواقع إليكترونية وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل منسوبة إلى هويات مزوّرة.. وتعلَّمت كيفية التعامل مع وظائف المتصفّح، وخوارزميات مُحرّك البحث، والآليات التقنية الأخرى، التي تتحكّم بالمحتوى المُقدَّم لمستخدمي الإنترنت، لإيصال الفكرة القائلة إن إسرائيل (ضحية بريئة للإرهاب الفلسطيني).. وهو ما تكرّره في كلّ حرب تقريبًا، لتقليل غضب الرأي العام الخارجي ضدها.. وتسعى إسرائيل، من وراء نشر تلك الروايات وترويجها، إلى إقناع الرأي العام العالمي بأن (اليهود أساس الحضارة في أرض فلسطين وأحق الناس بها)، ومن ثم الحصول على تعاطفه وتأييده للمشروع الصهيوني.. وصممت إسرائيل بذلك رواية عن نفسها، باعتبارها أمة صغيرة ولكنها (شجاعة تدافع عن نفسها ضد العنف والإرهاب الفلسطيني)، ونتيجة لحملتها التضليلية الفعّالة، أصبح عدد كبير من الأمريكيين يعتقدون، أن إسرائيل دولة ديمقراطية وتقدمية وإنسانية!!.
إلا أن (طوفان الأقصى) يبقى علامة فارقة في التاريخ المعاصر، تعكس قوة الإرادة الفلسطينية، وقدرتها على مواجهة التحديات، وأن الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون، تُجسد نضالًا مستمرًا من أجل حقوقهم المشروعة.. وعليه، فإن المجتمع الدولي مُطالَب بأن يتجاوز سياسة الحياد، وأن يتبنّى مواقف تدعم العدالة، خصوصًا وقد أصبحت صورة ما يجري من تدمير في ثطاع غزة، وقتل وتجويع لشعب أعزل، معروضة بوضوح أمام أعين العالم، رغم الحصار الإعلامي الغربي والإسرائيلي عليها، إلا أن الصورة ـ في كل الأحوال ـ لا تكذب، ولن تختفي، لتبقى مُوجِعة لضمير العالم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين آمين.

أخبار متعلقة :