نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لا خروجٌ آمن من التاريخ! - نبأ العرب, اليوم الاثنين 25 نوفمبر 2024 08:45 مساءً
(١)
(إلا قولى يا ماهر بما إنك مدرس تاريخ مين هو أول واحد لعب قمار فى التاريخ؟!
التاريخ مفيهوش ناس هلس زيكم.. التاريخ فيه ناس تانية..فيه زعماء وقادة..أنبيا وفلاسفة.. مفكرين....وطنيين وخونة..إنما خمورجية وحشاشين وقمرتجية مفيش!)
كانت هذه أقوى عبارات فيلم الإنسان يعيش مرة واحدة على لسان الزعيم عادل إمام. وهى من أصدق ما قيل فى وصف هذا الكائن المفزع المسمى بالتاريخ..لكننى ربنا أختلف فى مقولة لا يوجد مقامرين فى التاريخ. ما ورد على لسان الزعيم ردا على السؤال يتناسب مع مشهد الدخان ومائدة القمار ومستوى محاوريه. لكننى أعتقد أن المقامرين فى التاريخ موجودون وفى كل العصور، وهم أسوأ كثيرا من مقامرى الأموال بالمعنى التقليدى، لأنهم – أى مقامرى التاريخ - أولا لم يقامروا بأموالهم أو ممتلكاتهم مثل مقامرى الفيلم، لكنهم قامروا بما لم يملكوه أصلا، ولأنهم ثانيا قامروا بما هو أثمن كثيرا من الأموال!
هيرودوت ليس أبا للتاريخ، فالتاريخ لا أب له، بل هو مخلوق بذاته من مخلوقات الله، وحامل أحد أختام العدالة فوق الأرض، وهى التى اشتقت اسمها من صفات الله. هو كائن شديد القسوة لكنه لا يظلم أحدا، كما لا يحابى أحدا. قد يؤجل كشف الستر طويلا ولمدة قرون، لكنه أبدا لا ينس كما حدث فى واقعة يرونها تاريخية، وأراها فلسفية خالصة قرر من خلالها هذا الكائن وبطريقته أن يسخر ممن يعتقدون أنهم نجوا من مقصلته!
(٢)
أمثلة مقامرى التاريخ الذين قامروا بأرواح شعوبهم فى حالة وجودهم فى سدة الحكم أو السلطة، أو أرواح أتباعهم فى حالة القيادات الروحية بمختلف مسمياتها كُثر فى كل الأوطان وفى كل فترات حياتها.
كان هذا الخاطر – مقامرى التاريخ - يراودنى وأنا أشاهد منذ عدة أيام على شاشة إحدى القنوات العربية..أحد قادة حماس وهو يرتدى ملابسه المهندمة ويجلس بأريحية ويتحدث بهدوء عن انفتاح حركته على أى حلول يتم بمقتضاها وقف الحرب وإعادة إعمار القطاع!
رأيته ورأيت قادة حركته جديرون تماما بأن يضافوا لقائمة مقامرى التاريخ الذين قرروا لعب (برتيتة) قمار بأرواح وأنفس أهل القطاع. اكتمل المشهد واستحقوا اللقب تماما بما أضافوه من تصريحات مثل ما قاله أحدهم مؤخرا عن شعوره (بخذلان الأمة)!
لقد قامروا فعلا حين راهنوا على أن إيران سوف تخوض معهم الحرب بعد أن دفعتهم لأتونها أو بالأدق دفعوا هم معها أهل القطاع للمقتلة!
قامروا وخسروا، لكن خسارتهم (التكتيكية) كانت عبارة عن أرواح خمسين ألف إنسان ثم يريدون أن يجلسوا مرة أخرى إلى طاولة القمار!
(٣)
سقطت فى فخ المقامرة التاريخية عبر العصور بعض أجهزة الدول العميقة بأن أقدمت على خوض (برتيتة الشيطان) بأن تتعاون أو تسمح أو تساند من خلف الستار بعض الجماعات الراديكالية بمختلف توجهاتها الجامحة.
كانت هذه الأجنحة داخل حكومات بعض الدول تعتقد أنه يمكنها دائما السيطرة على تحركات هذه الجماعات، بل وأن تستخدمها وتحركها كعرائس الماريونيت. تعتقد دائما هذه الأجنحة أنها تستطيع استخدام الحركة أو الجماعة المعنية للعب دور محدد لا تخرج عنه وأنها قادرة فى أى وقت على إنهاء البرتيتة بعد أن تكون قد حققت أهدافها، لكنها تفاجأ فى كل مرة ومهما اختلفت التفاصيل والأسماء، بأنها كانت ساذجة جدا فى اعتقادها هذا.
وفى كل مرة تدفع تلك الدولة من اقتصادها واستقرارها وحياة بعض مواطنيها ثمنا باهظا.
أجهزة مخابرات بعض الدول الغربية لعبت هذه البرتيتة فى عقود القرن الماضى وفتحت سفاراتها فى دول الشرق الأوسط لمنح ملاذات آمنة رسمية على أراضيها لأساطين الجماعات الإرهابية المتورطة فى جرائم إرهاب ضد دولها الوطنية وأدانتها أحكام قضاء وطنية.
اعتقدت هذه الأجهزة أنه يمكنها السيطرة على هؤلاء وتجنيدهم لتحقيق أجنداتها طويلة المدى فى دول الشرق الأوسط. حتى مرت السنوات فتمدد الوحش الجامح على أراضيها واستقطب بعض مواطنيها وغرس بذور جنونه فى أرضها وأصبح كالأخطبوط ملتفا حول أقدام هذه الدول لا فكاك منه إلا بنزع الجلد والدم!
ولم تكن دول الشرق بعيدة عن خوض مقامرات مماثلة كلفت أوطانها تقهقرا للخلف وخصما من حضارتها وتنميتها وقدرتها على مجابهة التحديات الخارجية. الذين قامروا باستضافة جماعات راديكالية خارجية على أراضيهم دفعوا الثمن من وحدة بلادهم واستقرارها واقتصادها ودماء أبنائها. لم تطأ أقدام قادة جماعة راديكالية أرض وطن ثم غادرته وهو آمنٌ أو كما كان. لم تغادره دون أن تترك خلفها مأساة فى شكل مذابح أو خسارة قطعة من أرض هذا الوطن!
(٤)
وبعض قادة أو أجنحة داخل حكومات بعض دول الشرق الأوسط قرروا خوض هذه المقامرة مع بعض الجماعات الراديكالية المحلية مدفوعين بنفس هذا الوهم وهو القدرة على التحكم والسيطرة وتحقيق مكاسب للإدارات الحاكمة أو حتى مكاسب للدولة ذاتها بمبدأ ميكيافيلى بحت. وكانت النتائج أيضا مأساوية قاتمة.
ولأن مصر هى الدولة الأكبر والأهم فى هذه المنطقة، فيمكن أن نتخذ من سيرة بعض حكامها نموذجا قويا لتأمل ودراسة هذه الفكرة بالغة الخطورة.
لدينا عدة حلقات على مدار قرنٍ كامل، بدأت فى العصر الملكى حين اعتقدت الإدارة المصرية الحاكمة أن الاستقواء على الأحزاب السياسية الشعبية المصرية بجماعة حسن البنا يمكن أن يحقق لها ما تريده. فكانت النتيجة أن مثلت هذه السنوات بحق الفرصة الذهبية التى استطاعت الجماعة من خلالها أن تتمدد جغرافيا بطول امتداد الوادى وعرض أراضى الدلتا ومحافظاتها وكونت وقتها شبكتها وأرضيتها المجتمعية أو أساس البناء الذى ظل حتى الآن هو الساند للجماعة.
وكانت الحلقة الثانية فى بدايات حكم عبد الناصر حين اعتقد أنه بإمكانه (دمج) الجماعة فى المجتمع المصرى وبادر بمنحهم فرصة للمشاركة فى الحكم معتقدا أن الثورة يمكنها احتواء الجماعة لصالح استقرار الحكم لبناء مشروع وطنى تنموى. وكانت النتيجة التى نعرفها.. محاولة الجماعة ابتلاع الثورة بمصر وبعبد الناصر ذاته فى أكثر من محاولة. ودفعت مصر ثمن هذا التصور الخاطىء بإجهاض وتبديد جزء غير قليل من جهدها وتوجيهه فى غير وجهته الصحيحة.
(٥)
أحب الشهيد السادات حبا كبيرا لإدراكى قيمة الرجل وعبقريته فى إدارة معركة النصر، وانتصاره للكرامة الوطنية بإصراره على خوض المعركة ورفض أكثر من خمسة عشر عرضا للتفاوض قبل نصر أكتوبر. وعبقريته تلك تدفعنى للدهشة الشديدة حين قرأت تفاصيل دوره فى المراهنة على قدرته على لعب دور كبير الحواة فى الاستعانة بمن يعرف تاريخهم وسيرتهم جيدا - وهو الرجل صاحب التجربة الحياتية الأعمق بين كل من تولوا حكم مصر حديثا – فى محاولة الاستقواء بهم على خصوم سياسيين من تيار سياسى تجمد إدراكه عند مرحلة تاريخية محددة سابقة للسادات.
راهن السادات على التيار المتأسلم منذ مرحلة مبكرة جدا من توليه الحكم. وفى السنوات التى تفرغ فيها للإعداد للمعركة الوطنية، استغل هؤلاء ما أتيح لهم من مساحات انتشار فأسسوا بنية تحتية عنقودية شملت الأشخاص والسلاح وتوفير مصادر التمويل حتى حدث الانفجار الأكبر حين انقلب هؤلاء عليه واغتالوه فى ذكرى نصره ونصر مصر.
ولم يستفد خليفته مبارك من الدرس بشكلٍ جيد وهو الذى عاصر كل تلك الأحداث، فراهن مرة أخرى على أن بعض هذه الجماعات تندرج تحت عنوان الاعتدال السياسى ولا علاقة لها بالإرهاب الذى كان يحاربه فى عموم مصر. راهن أنه يستطيع السيطرة تماما بطريقة تشبه ما جاء فى مشاهد فيلم (ضد الحكومة) والتى أجاد تقديمها الفنان محمد وفيق. ففى ذروة تصدى الدولة لجرائم الجماعات - التى استطاعت الانغراس فى التربة المصرية بسبب مراهنات قادة وأجنحة داخل حكومات مصرية سابقة – سمحت نفس الدولة لجماعة الإخوان بالتواجد حتى غير المقنن، لكنه تواجد حقيقى وفعلى. ولقد أجاد أقطاب الجماعة استخدام هذه الفرصة جيدا جدا. فكونوا ثروات طائلة ومارسوا أنشطة اقتصادية متغولة فى الأرض المصرية ودشنوا إمبراطوريات اقتصادية كبرى أصبحت بالفعل جزءّ من واقع الاقتصاد المصرى. حتى كانت أحداث ما بعد يناير حين كشف هذا الكيان عن قوته كاملة من اقتصاد وأسلحة وعناصر بشرية تم تجنيدها فى سنوات مبارك ودفعت مصر ثمنها الأكثر فداحة فى مائة عام، وكاد هذا الثمن أن يكلف مصر وحدة أراضيها!
(٦)
وهكذا خاضت مصر مواجهات متتالية عبر قرن كامل منذ العصر الملكى وحتى الآن، وكلها جاءت بسبب فكرة سياسية واحدة هى اعتقاد البعض - من القادة أو الساسة أو مستشارى القادة أو مستشارى الحكومات أو منظرى بعض الأجهزة والإدارات – بصواب فكرة اللعب بالنار أو الجماعات الراديكالية التى تعتقد أفكارا تتعارض مع بديهيات وأسس وركائز الدولة المصرية الوطنية.
والغريب هو تكرار المراهنة عدة مرات رغم ثبوت فشل الفكرة من المحاولة الأولى، ورغم مأساوية نتائجها وتكلفتها الباهظة ليس فقط على النواحى الوطنية، بل حتى على الإدارات والحكومات ذاتها التى خاضت هذه المراهنة!
المأساة الحقيقية التى لم ربما لم يتنبه لخطورتها الكثيرون هو أن الجميع فى كل مرة يتعامل مع مشهده منفصلا عما سبقه ويعتقد أنه يمكن أن يغير حقائق وبديهيات العلوم الإنسانية والنفسية والسياسية وخصائص التفكير الراديكالى وأدبياته. ونتج عن هذه المأساة خسائر مجمعة لمصر. كل مرة يتم إضافة خسارة تراكمية أصبح مجملها هو ما آلت إليه مصر فى بدايات هذا القرن. شملت هذه الخسائر خصما مما كان يمكن أن تنجزه مصر فى مجالات العلوم والصناعة والتنمية والفنون. أصبحت مصر بعد مرور كل مرة تبدأ من جديد فى محاولة إرساء قواعد دولة جديدة وفى هذه المحاولة تخسر سنوات كان من المفترض أن تنفقها فى مرحلة متقدمة من الحضارة حتى وصلنا لنقطة أن أى حلقة جديدة يمكنها أن تعصف بكيان هذه الدولة تماما لما جد على الساحة الدولية من تطور رهيب فى أدوات الصراع. وأى تبديد لطاقة أى دولة فى هذه المقامرة هو ضربٌ من الجنون الخالص.
(٧)
الدخول إلى عتبات التاريخ قد يكون اختياريا خالصا. يبذل أحدهم الكثير من الجهد طوال سنوات العمر توقا لهذا الدخول. مفكرون وعلماء وسياسيون وفنانون يجتهدون كثيرا ويحلمون بالخلود فى أحد صفحاته. ينجح بعضهم فى الوصول للصف الأول فيصبحون مستشارين للقادة ومسؤلين عن مؤسسات إعلامية وثقافية كبرى ومسؤلين عن فعاليات ضخمة ومحركين لأحداث سياسية واجتماعية حاسمة، ومحركين أحيانا لمتخذى القرار الذين يثقون فى حصافة رؤاهم. فى تلك اللحظة يكون تقرير مصيرهم أو بالأدق كيفية بقائهم ولون صفحاتهم وأخيرا مصير خروجهم من التاريخ، وهل سيكون خروجا لائقا كما تمنوا أم سيكون خروجا مشينا يتمنون معه لو لم يصلوا لما وصلوا إليه، كل ذلك يصبح بيد التاريخ وحده!
القاضى الذى تأخون على منصة القضاء فى أربعينات القرن الماضى وهو يحاكم مجرمى الجماعة المتورطين فى قضية السيارة الجيب، هذا القاضى مثال نموذجى لهؤلاء الذين قضوا سنوات عمرهم من أجل لحظة الدخول، فلما دخل خرج منه موسوما بما لا يتمناه غيره!
وقد يكون الدخول قدريا ونتيجة طبيعية لإخلاص قادة يجدون أنفسهم فى لحظة مفصلية حاسمة وقد أصبحوا فى ردهاته. وتصبح لديهم نفس المعضلة، كيف سيديرون تلك اللحظة. هل سيكونون أكثر ذكاءً ممن سبقهم فيتعلمون من صفحات وخطايا وأخطاء هؤلاء السابقين، أم أنهم سيقعون فى نفس الفخاخ؟! وكيف سيكون خروجهم من التاريخ؟!
هذه إحدى كمائن هذا الكائن المسمى بالتاريخ. يفتح أبوابه على مصراعيها ليدلفها من يريد ومن يستطيع الوصول وهو لا يفرض شروطا على هذا الدخول. لكنه يبدل وجهه كليا ويرتدى وجها قاسيا صارما طوال فترة الاستضافة، ثم يصبح أكثر صرامة وقسوة فى فرض شروط الخروج ويعلن مبدأه للجميع بعد أن يتهيأوا للحظة الخروج..لا خروج آمن.. لا مجاملة..لا كتمان أو أسرار.. أنا أهوى إسقاط الأقنعة وهتك الحجب! فمن صدق وأخلص فلا خوف عليه، ومن حنث وسقط فى أول الطريق أو منتصفه أو آخره فلا بد أن يستعد لدفع الثمن بشخصه أو بسيرته حين تُصب عليها وعليه لعنات أجيالٌ قد تأتى بعد عقودٍ أو قرون!
(٨)
انتابتنى موجة ضحك هستيرية وأنا أقرأ هذه الواقعة التاريخية لأول مرة.. ضحكت وكأنى أرى وجه صاحبها مطأطىء الرأس وقد مضى على موته آلاف الأعوام.. واقعة مارس فيها التاريخ هوايته فى السخرية القاسية ممن توهموا أنهم بموتهم قد أصبحوا بمأمن من غدره!
(با نب) رئيس عمال فاسد عاش فى قرية دير المدينة بالبر الغربى بالأقصر منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. ساوم عاملا بسيطا وابتزه للحصول منه على مرآة فضية ثمينة. رفض العامل منحه إياها حتى تم سرقتها من منزل العامل. لم تقد التحقيقات وقتها إلى السارق. وأغلق المحضر وقتها بأن الفاعل مجهول. ثم فى النصف الأول من القرن التاسع عشر يتم العثور على المرآة فى مقبرة رئيس العمال (با نب)!
مارس التاريخ إحدى هواياته بدرسٍ قاسٍ لكل (با نب) على وجه الأرض وفى كل العصور. تحذير شديد اللهجة لا أحد بمأمن من تطبيق قوانينى. قد أصمت حينا لكننى أبدا لا أتنازل عن حقى فى الكشف والهتك والفضح أحيانا.
مارس التاريخ ذلك مع الجميع دون استثناء لقادة أو مفكرين أو علماء أو موظفين أو حتى أناس عاديين أغراهم بريق خلوده.
مارس التاريخ ذلك مع كل الملل والنحل والطوائف ولم يستثن أسماءً براقة يضعها أتباعها فى موضع أعلى مراتب الإجلال والاحترام. كشف التاريخ صفحات الجميع، من قامر ومن ظلم ومن قتل ومن استباح ومن خان. ولأنه من حملة أختام العدالة، فأيضا لم يبخل بمنح أكاليل الغار والشرف لمن يستحقون حتى لو كانوا من الصعاليك.
أتمنى لو قرأ الجميع بعض صفحاته حتى يدركوا أنهم جميعا ليسوا بمأمن من اتنقامه القاسى. كل من قادته قدماه أو قاده نبوغه إلى الصف الأول عليه أن يحذر..كل من تولى منصبا عليه أن يحذر.. قد يخدعك اليوم المنافقون لكنهم لن يملكوا لك شيئا حين يقرر التاريخ مصيرك.. مبدأ التاريخ ثابت كالكتاب السماوى.. لا خروجٌ آمن من التاريخ دون حق!
0 تعليق