معارك بين الملامح - نبأ العرب

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
معارك بين الملامح - نبأ العرب, اليوم الاثنين 25 نوفمبر 2024 07:42 مساءً

الإثنين 25/نوفمبر/2024 - 07:40 م 11/25/2024 7:40:44 PM

بدأ الأستاذ «جلال عامر»، رحمة الله عليه، الكتابة فى جريدتى «الأهالى» و«التجمع» وهو فى الستين، قبل أن تتبارى الصحف فى التسعينيات لضمه إليها. كنت أراه موهبة استثنائية، وكتبت عنه هنا فى «الدستور» منبهًا إلى منزلته العالية ككاتب يغرد فى منطقة تنهل من البداهة المصرية الحريفة، وأقنعته بنشر كتابه الأول. رحل فجأة حزنًا على مصير مصر فى فترة الإخوان الكئيبة، ولكنه ترك أثرًا فى فن الكتابة الرشيقة العميقة، وليست الساخرة، التى يمتهنها غالبًا ثقيلو الظل، الذين لا يعرفون أن مدرسة «ساعة لقلبك» أغلقت أبوابها منذ أكثر من خمسين عامًا.. الكبار والصغار أجمعوا على أن الشيخ «عبدالعزيز البشرى» هو الأهم فى هذه المنطقة، وتراثه يؤكد هذا رغم تباعد الزمن. بكتاباته فى بابه الشهير «فى المرآة» وفى كتبه القليلة قدم فتحًا لنوع فريد من الكتابة يرقى إلى مستوى الأدب، رغم أن الهدف من كتابتها كان صحفيًا.البشرى «١٨٨٦- ١٩٤٣» كتب عنه «طه حسين وخيرى شلبى» وغيرهما مقالات ودراسات فى غاية العذوبة، الثانى كان يعتبره أستاذه فى كتابة البورتريه، واعترف أكثر من مرة بفضل الرجل عليه وعلى الكتابة. «شلبى» استعار آلياته وهو يكتب عنه، كتب عن ملامحه دون أن يراه، الصور الفوتوغرافية المتاحة له محدودة للغاية، يستهل الكتابة عنه: «شمامة إسماعيلاوية طابت واستوت حتى تفتقت من أسفلها فصار منظرها فاتحًا للشهية بعطرها الفواح الأرستقراطى النكهة». الأستاذ «خيرى» كان يمتلك فراسة نادرة فى الأدب والحياة، يحمل قاموسًا يخصه، وتعلم من الحياة أشياء لا تعلمها الكتب، ولذلك حين يصف شيئًا تجد فرادة فى التناول واللغة وخفة الدم أيضًا. يصف وجه البشرى «ابن أحد مشايخ الأزهر»: «وجه مستطيل جارم الأطراف والملامح، كل ملمح فيه يريد أن يطغى على بقية الملامح، ولهذا صار وجهه ميدانًا فسيحًا تدار فيه المعارك بين الملامح، يحتدم فيه طغيان القسمات، ومع ذلك تتكافأ الصراعات فيظل كل ملمح محتفظًا بحدوده الآمنة وإن سمح له بإلقاء ظله على الآخر فى نوع من التواد والمحافظة على حسن الجوار». نذهب إلى «البشرى» نفسه لنقرأ مقتطفات وهو يرسم «زيور باشا»: «أما شكله الخارجى وأوضاعه الهندسية ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية، فذلك كله يحتاج فى وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة.. وهو عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشابكة: فهو عندكم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو زكى وغبى، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطنى حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه يجود منها الطارف والتلاد!!...».. وينهى «البشرى» البورتريه بأن «زيور باشا» لا يصلح لإدارة أى شىء. أنت هنا أمام كتابة لها معنى، يوجد حافز وراء كتابتها، لا يوجد ابتذال ولا استجداء ابتسامة، فى كتابه العظيم «المختار.. بجزأيه» ستجد كاتبًا عليمًا بفنون شتى، عالمًا باللغة والموسيقى والأدب، فمقاله عن قارئ زمانه الشيخ «أحمد ندا» سيعيش فى وجدان عشاق فن التلاوة. الدكتور «طه حسين» يرى أن ما يميز أدب البشرى «أنه جمع خصالًا ثلاثًا، فلاءم بينها أحسن ملاءمة، وكون منها مزاجًا معتدلًا رائع الاعتدال، فهو مصرى قاهرى كأشد ما يمكن أن يكون لإنسان مصرى قاهرى، يحس كما يحس أبناء الأحياء الوطنية، ويشعر كما يشعرون، ويحكم كما يحكمون، لولا أن ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التى تحسن الحكم على الأشياء، وهو على كل حال قاهرى الحس، قاهرى الشعور، قاهرى الذوق، وما أراه يجد مشقة كبيرة فى أن يتحدث إلى أشد الطبقات فى الأحياء الوطنية تواضعًا». ويرى عميد الأدب العربى أن الخصلة الثانية فى «البشرى» أنه كان بغداديًا كأشد ما يكون الأديب بغداديًا، لأنه عاشر «أبوالفرج الأصفهانى» وأصحابه فأطال عشرتهم، والخصلة الثالثة هى احتكاكه بالحضارة الغربية، ولهذا كان أدبه مرضيًا لكل الطبقات، «إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به لأن فيه شيئًا من الأزهر، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به لأن فيه روحًا من أوروبا، وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا من هؤلاء، أعجبوا به لأن فيه روحًا من مصر». العودة إلى قراءة أمثال «البشرى» هذه الأيام ممتعة، ليس بسبب غياب البديل، ولكن بسبب الضيق الذى يوحى لك بأن الأكسجين سرق من الجو، لأن هؤلاء هم عناقيد النور كما أسماهم «خيرى شلبى». فى ١٩٢٣ كتب الشيخ عبدالعزيز فى مذكراته: «لست أدرى لعمرى فيما أنا الآن! تالله ما أرانى فى شىء أبدًا، لأننى لا أشعر بأننى مجتمع الشمل بهذا (الآن)!، ولا أرانى شعرت بهذا قط طوال الحياة!، اطلعت على ساعة من ساع الزمن إلا رأيتنى مشغولًا عنها بانحدار إلى التى تليها.. فأنا من يوم طالعت هذه الدنيا لا أجدنى إلا على سفر دائم لا لبثة فيه ولا هوادة، ولا مناخ لراحة ولا لزاد، سير فى النهار مغز، وسرى فى الليل حثيث».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق