نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
اللص الشريف.. وسيف النقمة - نبأ العرب, اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 08:09 مساءً
سؤال حكيم طرحه الدكتور طه حسين وهو يتناول «ثورة الزنج» التى اندلعت عام ٢٥٥ هجرية بالعراق فى عصر الدولة العباسية، وقادها على بن محمد الملقب بـ«صاحب الزنج».. يقول العميد: لقد وصف المؤرخون صاحب الزنج بالخبيث اللعين.. فكيف كانوا سيصفونه لو نجحت ثورته؟.. والسؤال يشير كما ترى إلى حقيقة أن التاريخ يكتبه الغالبون.
يقول الدكتور طه حسين إن صاحب الزنج هو عبدالله بن محمد، الذى قاد ثورة امتدت إلى أنحاء شتى من العراق، وهزت عرش الخلافة العباسية فى بغداد، ويرى المؤرخون أنه لم يكن إلا مغامرًا شريرًا، آثر نفسه بالخير وطمع فى الرياسة، واقترف فى سبيل ذلك آثامًا يشيب لهولها الولدان. والغريب أن «ابن الأثير» يذهب فى كتابه «الكامل فى التاريخ» إلى أن صاحب الزنج لم يكن اسمه «عبدالله بن محمد» كما يقرر طه حسين، بل «على بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب»، وبالتالى يمنحه وجهًا شيعيًا واضحًا، بنسبته إلى على بن أبى طالب، ويتفق معه «ابن كثير» فى ذلك، ويذهب فى كتابه «البداية والنهاية» إلى أن «عليًا بن محمد» لم يكن صادقًا فى حديثه عن انتسابه إلى على بن أبى طالب، وأنه لم يكن أكثر من أجير لدى «عبدالقيس»، وأن اسمه «على بن محمد بن عبدالرحيم» وأمه «قرة بنت على بن رحيب»، والمعلومة ذاتها تجدها عند «ابن الأثير»، ويعنى ذلك بداية أن صاحب الزنج وقائد ثورتهم العارمة التى امتدت لسنين داخل ربوع العراق اسمه «على بن محمد»، وليس عبدالله بن محمد، كما يذهب الدكتور طه حسين فى كتابه «ألوان».
يحدد «ابن كثير» بداية حركة التمرد الكبير الذى قاده «على بن محمد» بعام ٢٤٩ هجرية، وقد توجه الرجل بدعوته إلى الزنج الذين كانوا عبيدًا يعملون فى أردأ الأعمال داخل البصرة، يقول «ابن كثير»: «ولما خرج خرجته هذه بظاهر البصرة التف عليه خلق من الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ». معنى ذلك أننا أمام عامل أجير من عمال «عبدالقيس»، آلمه وأوجعه ما يعانى هو وأمثاله من الأجراء على يد السادة المسيطرين، وكان الزنج هم الأكثر ألمًا ومعاناة من ضغوط العبودية، وما يفرضه عليهم أسيادهم من أعمال شاقة ومُذلة مثل «كسح السباخ»، وبالتالى كان من الطبيعى أن يكونوا الأسرع إلى الاستجابة لدعوة «على بن محمد». والواضح أن فكر الرجل كان إسلاميًا بحتًا، ولم يكن مهرطقًا دينيًا أو مدعيًا للنبوة، كما ذهب بعض المؤرخين، والدليل على ذلك ما يذكره «ابن كثير» من أنه «كان يدعى أنه يحفظ سورًا من القرآن فى ساعة واحدة جرى بها لسانه لا يحفظها غيره فى مدة دهر طويل»، ويعنى ذلك أنه كان يحدث الناس بالقرآن وبقيم القرآن، وهو ما أوقع المؤرخين فى حرج دفعهم إلى اتهامه بالتهمة الجاهزة التى يتم استدعاؤها فى مثل هذه الأحوال، فوصفه «ابن كثير» بأنه «خارجى»، فى حين وصفه «ابن الأثير» بالتشيع تارة، وبادعاء النبوة تارة، وقال: «كان أهل البحرين قد أحلوه بمحل نبى، وجبى الخراج، ونفذ فيهم حكمه، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه».
التف حول صاحب الزنج العديد من العبيد الزنوج الذين كانوا ينتشرون فى أنحاء شتى من البصرة وبغداد، وبدأ الخليفة يشعر بخطرهم، فأرسل إليهم- منذ البداية- من يقاتلهم، فى وقت لم يكن لدى صاحب الزنج وأتباعه فيه ما يكفى من العدة والعتاد، ومن المضحك أن تجد أن مؤرخًا مثل «ابن كثير» يشير إلى أنه لم يكن معهم سوى «ثلاثة أسياف»، ومع ذلك فقد تمكنوا من هزيمة القوات التى أرسلت إليهم، وتكررت مشاهد انتصاراتهم أكثر من مرة على نائب الخليفة على البصرة ومن يرسلهم لتأديبهم من قوات. ويعنى ذلك أن «عليًا بن محمد» وأتباعه كانوا أصحاب قضية يدافعون عنها فى استماتة ضد خصم أقوى منهم وأكثر عددًا وعدة، وليس أدل على ذلك مما يذكره «ابن كثير» من أن أصحابه انهزموا فى بعض حروبه هزيمة عظيمة، ثم تراجعوا إليه واجتمعوا حوله، ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقًا، وأسروا آخرين.
لقد كان صاحب الزنج واضحًا فى هدفه، كزعيم يريد للمستضعفين أن يسيطروا على سادتهم الذين استذلوهم وأهدروا كرامتهم، وكان يوجه سيف نقمته إلى السلطان الذى يحكم، فى حين يتعامل مع القاعدة العريضة من الناس باللين والرأفة، يقول «ابن كثير»: «وهو مع ذلك لا يتعرض لأموال الناس ولا يؤذى أحدًا، وإنما يريد أخذ أموال السلطان». لقد كان صاحب الزنج أشبه باللص الشريف الذى يسطو على مال الأغنياء ليعطيها للمستضعفين والفقراء، لذلك لم يكن غريبًا أن يلتف حوله قوم كثيرون ممن وصفهم المؤرخون بـ«الرعاع» الذين وجدوا معه سبيلًا للخلاص من ضغوط سادتهم، وكان هؤلاء الضعاف هم الذين يلجأون إليه ويدعونه إلى إنقاذهم، وكان يضمن بذلك الفوز والنصر، يدلل على ذلك أنه رفض ذات يوم رأى أصحابه الذين أشاروا عليه بأن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة، فاستهجن آراءهم وقال: بل نكون منها قريبين حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها ويخطبوننا عليها.
لقد جعل صاحب الزنج «الدفاع عن المستضعفين» قضيته الأولى، ووجه دعوته إلى أكثر فئة مستضعفة داخل المجتمع العباسى، وهى فئة الزنج، وانضم إليه غيرهم من الفقراء والمهمشين داخل بغداد والبصرة والعديد من الأنحاء، واعتمد على تسويق نفسه بالارتكان إلى قيم الإسلام فى التحرر والدفاع عن كرامة الإنسان، لكنه نسى فى غمرة ذلك أن تمكين العبيد من رقاب السادة، يعيد إنتاج نفس العلاقات المريضة التى كانت بين السادة والعبيد، ففى كل الأحوال يظل المجتمع على ما هو فيه من ظلم واستعباد وإذلال الإنسان لأخيه الإنسان.
0 تعليق