نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خسارة تايسون ونهاية عصر المقاتلين - نبأ العرب, اليوم الأحد 17 نوفمبر 2024 11:54 صباحاً
سُئل مايك تايسون ذات مرة وهو في بدايات العقد الخامس من عمره، ما هي طقوسك التي كنت تمارسها قبل المباراة،فجاءت إجابته صادمة للمحاور، أجاب: "أنا كنت أبكي بشدة قبل كل مباراة". فسأله المحاور متعجبًا:تبكي وأنت بطل العالم للوزن الثقيل في الملاكمة، أنت أعظم المحاربين في العصر الحديث،كيف لي أن أصدق أنك كنت تبكي كالأطفال قبل المباريات، ثم تخرج على الحلبة كوحش كاسر يحطم جميع الأبطال أمامه!. فيبتسم تايسون بمرارة، ويجيب: كنت أبكي، لأني ستأحول على الحلبة إلى شخص أخر لا أحبه،كنت أودع نفسي قبل كل مباراة، فالأمر أصبح لا يتعلق بالملاكمة أو الرياضة عمومًا، لكن المباريات هي ساحة لصراع الأموال والمنظمات والرهانات، المستغلة للملاكمة،فقد كنت مضطرًا أنا أتحول إلى ذلك الوحش، لأخوض معركة ضد كل هؤلاء، وليس ضد خصمي في المقام الأول.
مايك تايسون ليس فقط ملاكم شهير، أو بطل له صولاته وجولاته على الحلبات، أو صاحب مدرسة خاصة لكل المهتمين أو الممارسين للملاكمة بشتى أشكالها. ولكنه مثّل دراما تراجيدية متكاملة الأركان، ذلك الشاب الذي بدأ من العدم، ليقرر أن يبني تاريخه بذراعه حرفيًا، حتى ينال لقب بطل العالم للوزن الثقيل عام 1986 عن عمر لم يتجاوز 20 عامًا،ليصبح أصغر بطل للوزن الثقيل في التاريخ،لم يتحقق إلى الأن.ثم يخوض بعد ذلك مباراته الأشهر ضد "لاري هولمز " عام 1988، تلك المباراة التي وضعته على أول سلم الشهرة،لأنها خاضها انتقامًا " لمحمد علي كلاي " بعد إهانة "هولمز" له في مباراته الأخيرة،وقد كان تايسون من عشاق محمد علي،فقرر أن ينتقم لمثله الأعلى، ليقضي على هولمز بالضربة القاضية في الجولة الرابعة، ليتحول تايسون من مجرد ملاكم عظيم، إلى بطل شعبي لكل عشاق محمد علي.
فيصبح تدريجيًا أكثر الملاكمين شهرة وقوة وثروة،و يتحول إلى مارد عظيم يملك العالم بين قفازيه.ولكن سرعان ما تدخل حياته أكثر فصولها درامية، حينما يدخل السجن 1992 على إثر اتهامه بالاعتداء الجنسي على ملكة الجمال السمراء لولاية "إنديانا "،ليقضي في السجن ثلاث سنوات، وكان من المرشح أن يخرج منه قاتل محترف أو مجرم كبير، في نهاية تليق بمأساة بطل التراجيدي، ولكن المفاجأة أن يعود إلى حلبات الملاكمة من جديد،ليحقق نجاحًا ساحقًا عام 1995، ويُنهي لقاءه مع "بيتر مكينلي" بطل العالم آنذاك في الجولة الأولى،بالضربة القاضية،ليتسعيد لقبه، ويبدأ تاريخه من جديد.
تايسون لم يكن ملاكمًا عاديًا، بل أيقونة ثقافية عبرت حدود الرياضة، قصة حياته المعقدة والمضطربة من القمة إلى القاع،من الثروة إلى الإفلاس، إلى القمة مجددًا،من الهزيمة إلى جولات متتالية من الانتصارات، حولته من مجرد ملاكم عظيم إلى رمز يخوض معارك الحياة ببراءة لا تليق بالمحاربين،منح جيله والأجيال التي تلته معنى خاص بالوجود.فالملاكمة لمن يعرفها جيدًا هي عالم متكامل من الصراع والدراما المعقدة، داخل الحلبة تتشكل حياة كاملة من الألم والأمل،فكل الهزائم الموجعة في العالم قد تتحول بين أركان الحلبة في لحظة إلى انتصارات عظيمة، وقد تنتهي بمأساة.
تايسون الذي يبلغ من العمر الأن 58 عامًا، خاض منذ يومان مباراته الأخيرة ضد " جيك بول " صانع المحتوى الشهير التافه، والمبتدئ في عالم الملاكمة، لينهي تاريخه الذي لا يخفى على أحد، أمام ملاكم استعراضي، لا يهدف إلا إلى زيادة عدد متابعيه على صفحاته في العالم الافتراضي،الذين وصلوا إلى 70 مليون متابع. تايسون فقد تاريخه أمام زيادة عدد المتابعين على صفحات "جيك بول".تلك الحقيقة التي أدركها "تايسون" بعد هزيمته أمام نفسه وتاريخه وأمامنا جميعًا، ليصرح أنه قرر اعتزال الملاكمة لفقدانه أي رغبة أو شغف في أي قتال قادم.
الأمر أكثر تعقيدًا من وجهة نظري من مجرد رجل بلغ من الكبر عتيا، قرر أن يتوقف عن ممارسة الملاكمة، رغم ما بدا على جسده من قوة لا تليق بمرحتله العمرية، ولكن أن العالم أصبح لا يليق بتايسون وأمثاله من المقاتلين، فالرجل كان يدرك جيدًا أنه مباراته الأخيرة ليست إلا مباراة استعراضية لا أكثر،وأن سنه ولياقته ليست بالتأكيد كسابق عهده في نسخته القديمة،وأن حالته الصحية التي كان يعانيها مؤخرًا لن تضعه في قالبه الصحيح،رغم قتاله ضد الضعف والسن والمرض، ولكنه أدرك في العمق كما أدرك كل من مثل لهم تايسون أيقونة القوة والمقاومة،أن هزيمته لم تكن أمام شاب يبلغ من العمر 27 عامًا، وإنما أمام ما يمثله من عالم افتراضي يحكم العالم. مجرد أرقام من المتابعين هي المحرك الوحيد لكل ما يُقدم من محتوى حقيقي أو وهمي. ف "بول" قرر أن يخوض عالم الملاكمة أقوى الرياضات القتالية وأنبلها على الإطلاق، ليحقق مكاسب دعائية كبيرة لا أكثر، وتُعرض المباراة على منصة Netflix ، وكأننا أمام فيلم خيالي من إنتاج أكثر المنصات إثارة للجدل.مما أفقد رياضة الملاكمة أهم ما يمزها عن بقية الرياضات القتالية، وهو المصداقية، والألم الحقيقي الذي يصنع الأبطال، ويُلهم الشعوب.
صحيح أن المباراة انتهت بحصول "جيك بول " على 30 مليون جنيه استرليني، وتايسون على نصف هذا المبلغ، وهو مبلغ ضخم قد ينقذ تايسون من إفلاسه المعلن منذ سنوات،لكن في العمق، مثلت هذه المباراة نهاية عصر المقاتلين أمام زمن المتابعين، فتايسون قد هزمنا جميعًا بالضربة القاضية،ليس لنهايته التي لا تليق أمام أحد الهواة، ولكن لخوضه المباراة من الأساس، وعدم إدراكه قواعد اللعب في زمن المنصات لا المباريات. مايك تايسون لم يبك قبل هذه المباراة كما تعود ليتحول إلى ذلك الوحش الذي يخوض المعارك ضد الضعف والهزيمة والفشل، لكن من المؤكد أنه بكى بعدها كثيرًا.
0 تعليق